كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{جَهَنَّمَ} يعلم إعرابه مما سلف؛ وقوله سبحانه: {يَصْلَوْنَهَا} أي يدخلونها ويقاسون حرها حال من جهنم نفسها أو من الضمير المستتر في خبر إن الراجع لشر مآب المراد به هي والحال مقدرة {فَبِئْسَ المهاد} أي هي يعني جهنم فالمخصوص بالذم محذوف، والمهاد كالفراش لفظًا ومعنى وقد استعير مما يفترشه النائم، والمهد كالمهاد وقد يخص بمقر الطفل.
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} {هذا} خبر مبتدأ محذوف أي العذاب هذا، وقوله تعالى: {فَلْيَذُوقُوهُ} جملة مرتبة على الجملة قبلها فهي بمنزلة جزاء شرط محذوف، وقوله تعالى: {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هو حميم وغساق وذا قد يشاربه للمتعدد أو مبتدأ محذوف الخبر أي منه حميم ومنه غساق كما في قوله:
حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس ** وغودر البقل ملوى ومحصود

أي منه ملوى ومنه محصود أو {هذا} مبتدأ خبره {حَمِيمٍ} وجملة {فليذوقوه} معترضة كقولك زيد فافهم رجل صالح أو هذا مبتدأ خبره {هذا فَلْيَذُوقُوهُ} على مذهب الأخفش في إجازته زيد فاضربه مستدلًا بقوله:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم

أو {هذا} في محل نصب بفعل مضمر يفسره {فَلْيَذُوقُوهُ} أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، ولعلك تختار القول بأن {هذا} مبتدأ وحميم خبره وما في البين اعتراض وقد قدمه في الكشاف والفاء تفسيرية تعقيبية وتشعر بأن لهم إذاقة بعد إذاقة، وفي حميم وغساق على هذين الوجهين الاحتمالان المذكوران أولًا والحميم الماء الشديد الحرارة.
والغساق بالتشديد كما قرأ به ابن أبي اسحاق وقتادة وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وحفص والفضل وابن سعدان وهارون عن أبي عمرو، وبالتخفيف كما قرأ به باقي السبعة اسم لما يجري من صديد أهل النار كما روي عن عطاء وقتادة وابن زيد، وعن السدى ما يسيل من دموعهم.
وأخرج ابن جرير عن كعب أنه عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية وعقرب وغيرهما يغمس فيها الكافر فيتساقط جلده ولحمه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه الزمهرير، وقيل: هو مشددًا ومخففًا وصف من غسق كضرب وسمع بمعنى سال يقال غسقت العين إذا سال دمعها فيكون على ما في البحر صفة حذف موصوفها أي ومذوق غساق ويراد به سائل من جلود أهل النار مثلا، والوصيفة في المشدد أظهر لأن فعالا بالتشديد قليل في الأسماء، ومنه الغياد ذكر البوم والخطار دهن يتخذ من الزيت والعقار ما يتداوي به من النبات، ومن الغريب ما قاله الجواليقي والواسطي أن الغساق هو البارد المنتن بلسان الترك والحق أنه عربي نعم النتونة وصف له في الواقع وليست مأخوذة في المفهوم، فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان وجماعة وصححه الحاكم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولو أن دلو من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» وقيل الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله عز وجل ويبعده هذا الخبر.
{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} {وَأَخَّرَ} أي ومذوق آخر وفسره ابن مسعود كما رواه عنه جمع بالزمهرير أو وعذاب آخر.
وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى وأبو عمرو و{ءاخَرَ} على الجمع أي ومذوقات أو أنواع عذاب آخر {مِن شَكْلِهِ} أي من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة، وتوحيد الضمير دون تثنيته نظرًا للحميم والغساق على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق.
وقرأ مجاهد {شَكْلِهِ} بكسر الشين وهي لغة فيه كمثل وإذا كان بمعنى الغنج فهو بالكسر لا غير {أزواج} أي أجناس و{ءاخَرَ} على القراءتين يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي وهذا مذوق أو عذاب آخر أو هذه مذوقات أو أنواع عذاب آخر، والجلمة معطوفة على هذا حميم، وإن شئت فقدر هو أو هي واعطف الجملة على هو حميم، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ومنه مذوق أو عذاب آخر أو ومنه مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على منه حميم وجوز أن يقدر الخبر لهم أي ولهم مذوق أو عذاب آخر أو ولهم مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على {هذا فَلْيَذُوقُوهُ} [ص: 57] ومن شكله وأزواج في جميع ذلك صفتاه لآخر أو أخر.
و{ءاخَرَ} وإن كان مفردًا في اللفظ فهو جمع وصادق على متعدد في المعنى.
ويحتمل أن يكون آخر أو أخر مبتدأ و{مِن شَكْلِهِ} صفته و{أزواج} خبر والجواب عن عدم المطابقة على قراءة الأفراد ما سمعت، وأن يكون ذلك عطفًا على حميم عطف المفرد على المفرد ومن شكله صفته وأزواج صفة للثلاثة المتعاطفة، وجوز أن يكون آخر مبتدأ ومن شكله خبره وأزواج فاعل الظرف، وأن يكون الأول مبتدأ ومن شكله خبر مقدم وأزواج مبتدأ والجملة خبر المبتدأ الأول أعني آخر، وصح الابتداء به لأنه من باب ضعيف عاذ بقرملة فالمبتدأ في الحقيقة الموصوف المحذوف أي نوع آخر أو مذوف آخر، وقيل لأنه جيء به للتفصيل، ومما ذكروا من المسوغات أن تكون النكرة للتفصيل نحو الناس رجلان رجل أكرمته ورجل أهنته وبحث فيه ابن هشام في المغنى، وجعلوا ضمير شكله على الوجهين عائدًا على آخر وهما لا يكادات يتسنيان على القراءة بالجمع فتدبر ولا تغفل.
{هذا فَوْجٌ} جمع كثير من أتباعكم في الضلال.
{مُّقْتَحِمٌ} راكب الشدة داخل فيها أو متوسط شدة مخيفة {مَّعَكُمْ} والمراد هذا فوج داخل معكم النار مقاس فيها ما تقاسونه، وهذا حكاية ما تقوله ملائكة العذاب لرؤساء الضلال عند دخول النار تقريعًا لهم فهو بتقدير فيقال لهم عند الدخول هذا. إلخ.
وفي الكشاف واستظهره أبو حيان أنه حكابة كلام الطاغين بعضهم مع بعض يخاطب بعضهم بعضًا في شأن أتباعهم يقول هذا فوج مقتحم معكم، والظرف متعلق بمقتحم، وجوز فيه أن يكون نعتًا ثانيًا لفوج أو حالا منه لأنه قد وصف أو من الضمير المستتر فيه، ومنع أبو البقاء جواز كونه طرفًا قائلًا: إنه يلزم عليه فساد المعنى وتبعه الكواشي وصاحب الأنوار.
وتعقبه صاحب الكشف بأنه إن كان الفساد لانبائه عن تزاحمهم في الدخول وليس المعنى على المزاحمة بين الفريقين الأتباع والمتبوعين ونهم بعد الدخول يقولون ذلك لا عند المزاحمة غير لازم لأن الاقتحام لا ينبىء عن التزاحم ولا هو لازم له وإنما مثل ضربت معه زيدًا ينبىء عن المشاركة في الضرب والمقارنة فكذلك اقتحام المتبوعين النار مع الأتباع ينبىء عن المشاركة في ركوب كل من الطائفتين قحمة النار ومقاساة شدتها في زمان متقارب عرفًا، ولو قيل هذا فوج معكم مقتحمون لم يفد أن المخاطبين أيضًا كذلك وفسد المعنى المقصود، والعجب ممن جوز أن يكون حالًا من ضمير {مُّقْتَحِمٌ} ولم يجوز أن يكون ظرفًا وإن كان بغير ذلك فليفد أولًا ثم ليعترض انتهى، وقال بعضهم: إن وجه فساد الظرفية دون الحالية أنه ليس المراد أنهم اقتحموا في الصحبة ودخلوا فيها بل اقتحموا في النار مصاحبين لكم ومقارنين إياكم، وهو كلام فاسد لا محصل له لأن مدلول مع المعبر عنه بالصحبة معناه الاجتماع في التلبس بمدلول متعلقها فيفيد اشتراك الطائفتين في الاقتحام لا في الصبحة كما توهمه ولا يدل على اتحاد زمانيهما كما صرح به في المغنى، ولو سلم فهو لتقاربه عد متحدا كما أشير في عبارة الكشف إليه فالحق أنه لا فساد، وقوله تعالى: {لاَ مَرْحَبًا بِهِمْ} دعاء من المتبوعين على أتباعهم سواء كان قائل ما تقدم الملائكة عليهم السلام أو بعض الرؤساء لبعض أو صفة لفوج أو حال منه لوصفه أو من ضميره، وأيًّا ما كان يؤول بمقول لهم لا مرحبًا لأنه دعاء فهو إنشاء لا يوصف به، وكذا لا يكون حالًا بدون تأويل، والمعنى على استحقاقهم أن يقال لهم ذل لا أنهم قيل لهم ذلك بالفعل، وهو على الوصفية والحالية من كلام الملائكة عليهم السلام إن كانوا هم القائلين أو من كلام بعض الرؤساء، وجوز كونه ابتداء كلام منهم و{مَرْحَبًا} من الرهب بضم الراء وهو السعة ومنه الرحبة للفضاء الواسع وهو مفعول به لفعل واجب الإضمار و{بِهِمُ} بيان للمدعو عليهم، وتكون الباء للبيان كاللام في نحو سقيًا له، وكون اللام دون الباء كذلك دعوى من غير دليل أي ما أتوا بهم رحبًا وسعة، وقيل: الباء للتعدية فمجرورها مفعول ثان لأتوا وهو مبني على زعم أن اللام لا تكون للبيان، وكفى بكلام الزمخشري وأبي حيان دليلًا على خلافه، ويقال: مرحبًا بك على معنى رحبت بلادك رحبًا كما يقال على معنى أتيت رحبًا من البلاد لا ضيقًا؛ ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يكون {مَرْحَبًا} مفعولًا مطلقًا لمحذوف أي لارحبت بهم الدار مرحبًا، والجمهور على الأول، وأيًّا ما كان فالمراد بذلك مثبتًا الدعاء بالخير ومنفيًا الدعاء بالسوء.
{إِنَّهُمْ صَالُو النار} تعليل من جهة الملائكة لاستحقاقهم الدعاء عليهم أو وصفهم بما ذكر أو تعليل من الرؤساء لذلك، والكلام عليه يتضمن الإشارة إلى عدم انتفاعهم بهم كأنه قيل: إنهم داخلون النار بأعمالهم مثلنا فأي نفع لنا فلا مرحبًا بهم.
{قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)} {قَالُواْ} أي الأتباع وهم الفوج المقتحم للرؤساء.
{بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَبًا بِكُمْ} أي بل أنتم أحق بما قيل لنا أو بما قلتم لنا، ولعلهم إنما خاطبوهم بذلك على تقدير كون القائل الملائكة الخزنة عليهم السلام مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى أولئك القائلين بل هم لا مرحبًا بهم قصدًا منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة طمعًا في قضائهم بتخفيف عذابهم أو تضعيف عذاب خصائصهم.
وفي البحر خاطبوهم لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم حيث تسببوا في كفرهم وأنكى للرؤساء، وهذا أيضًا بتأويل القول بناء على أن الإنشاء لا يكون خبرًا أي بل أنتم مقول فيكم لا مرحبًا بكم {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} تعليل لأحقيتهم بذلك، وضمير الغيبة في {قَدَّمْتُمُوهُ} للعذاب لفهمه مما قبله أو للمصدر الذي تضمه {صَالُو} وهو الصلي أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى ودخول النار لنا بإغوائنا وإغرائنا على ما قدمنا من العقائد الزائغة والأعمال السيئة لا أنا باشرناها من تلقاء أنفسنا.
وفي الكلام مجازان عقليان، الأول إسناد التقديم إلى الرؤساء لأنهم السبب فيه بإغوائهم، والثاني إيقاعه على العذاب أو الصلي مع أنه ليس المقدم بل المقدم عمل السوء الذي هو سبب له، وقيل: أطلق الضمير الذي هو عبارة عن العذاب أو الصلى المسبب عن العمل على العمل مجازًا لغويًا، وقيل: لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلى المسبب عن العمل على العمل مجازًا لغويًا، وقيل: لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلى بتأخير الرحمة منهم {فَبِئْسَ القرار} أي فبئس المقر جهنم، وهو من كلام الأتباع وكأنهم قصدوا بذلك التشفي والإنكار وإن ذلك المقر مشترك، وقيل: قصدوا بالذم المذكور تغليظ جناية الرؤياء عليهم.
{قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)} {قَالُواْ} أي الأتباع أيضًا، وقول ابن السائب: القائل جميع أهل النار خلاف الظاهر جدًّا فلا يصار إليه، وتوسيط الفعل بين كلاميهم لما بينهما من التباين ذاتًا وخطابًا أي قالوا معرضين عن خصومة رؤسائهم متضرعين إلى الله عز وجل: {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا في النار} أي مضاعفًا ومعناه ذا ضعف أي مثل وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير بتلك الزيادة مثلين لعذاب غيره، ويطلق الضعف على الزيادة المطلقة.
وقال ابن مسعود هنا: الضعف حيات وعقارب، والظاهر من بعض عباراتهم أن {مِنْ} موصولة، ونص الخفاجي على أنها شرطية.
وفي البحر {مَن قَدَّمَ} هم الرؤساء، وقال الضحاك: هو إبليس وقابيل، وهو أنسب بخلاف الظاهر المحكي عن ابن السائب.
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)} {وَقَالُواْ} الضمير للطاغين عند جمع أي قال الطاغون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر {مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالًا كُنَّا} في الدنيا {نَعُدُّهُمْ مّنَ الاشرار} أي الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى يعنون بذلك فقراء المؤمنين وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم إياهم في الدين، وقيل: الضمير لصناديد قريش كأبي جهل. وأمية بن خلف. وأصحاب القليب، والرجال: عمار وصهيب وسلمان وخباب وبلال وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم بناء على ما روي عن مجاهد من أن الآية نزلت فيهم، واستضعف صاحب الكشف وسبب النزول لا يكون دليلًا على الخصوص، واستظهر بعضهم أن الضمير للأتباع لأنه فيما قبل يعني قوله تعالى: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ} [ص: 60] الخ لهم أيضًا، وكانوا أيضًا يسخرون من فقراء المؤمنين تبعًا لرؤسائهم، وأيًّا ما كان فجملة {كُنَّا} الخ صفة {رِجَالًا}.
وقوله تعالى: {أتخذناهم سِخْرِيًّا} بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل كما قرأ بذلك الحجازيان وابن عامر وعاصم وأبو جعفر والأعرج والحسن وقتادة استئناف لا محل له من الإعراب قالوه حيث لم يروهم معهم إنكارًا على أنفسهم وتأنيبًا لهم في الاستسخار منهم، وقوله تعالى: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار} متصل بقوله تعالى: {مَا لَنَا لاَ نرى} [ص: 62] الخ، وأم فيه متصلة وتقدم ما فيه معنى الهمزة يغني عن تقدمها على ما يقتضيه كلام الزمخشري، والمعنى ما لنا لا نراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها أو بقوله تعالى: {أتخذناهم} الخ، وأم فيه إما متصلة أيضًا، والمقابلة باعتبار اللازم، والمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الإزدراء بهم وتحقيرهم وإن أبصارنا تعلو عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار الأمرين جميعًا على أنفسهم، وعن الحسن كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريًا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم، وإما منقطعة كأنهم أضربوا عن إنكار الاستسخار وأنكروا على أنفسهم أشد منه وهو أنهم جعلوهم محقرين لا ينظر إليهم بوجه، وفي {زَاغَتِ} دون أزغنا مبالغة عظيمة كأن العين بنفسها تمجهم لقبح منظرهم وأين هذا من السخر فقد يكون المسخور منه محبوبًا مكرمًا.
وجوز أن يكون معنى أم زاغت على الانقطاع بل زاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حتى خفي عنا مكانهم وأنهم على الحق المبين.
وقرأ النحويان وحمزة {أتخذناهم} بغير همزة فجوز أن تكون مقدرة لدلالة أم عليها فتتحد القراءتان، وأن لا تكون كذلك ويكون الكلام إخبارًا فقال ابن الأنباري: الجملة حال أي وقد اتخذناهم، وجوز كونها مستأنفة لبيان ما قبلها.
وقال الزمخشري وجماعة: صفة ثانية لرجالًا و{أَمْ زَاغَتْ} متصل بقوله تعالى: {مَا لَنَا لاَ نرى} الخ كما سمعت أولًا.
وجوز أن تكون أم فيه منقطعة كأنهم أضربوا عما قبل وأنكروا على أنفسهم ما هو أشد منه أو أضربوا عن ذلك إلى بيان إن ما وقع منهم في حقهم كان لزيغ أبصارهم وكلال أفهامهم عن إدراك أنهم على الحق بسبب رثاثة حالهم، وقرأ عبد الله وأصحابه ومجاهد والضحاك وأبو جعفر وشيبة والأعرج ونافع وحمزة والكسائي {سِخْرِيًّا} بضم السين ومعناه على ما في البحر من السخرة والاستخدام، ومعنى سخريًا بالكسر على المشهور من السخر وهو الهزء وهو معنى ما حكى عن أبي عمرو قال: ما كان من مثل العبودية فسخري بالضم وما كان من مثل الهزء فسخري بالكسر، وقيل: هو بالكسر من التسخير.
{إِنَّ ذلك} أي الذي حكى عنهم {لَحَقُّ} لابد أن يتكلموا به فالمراد من حقيته تحققه في المستقبل.
وقوله تعالى: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} خبر مبتدأ محذوف أي هو تخاصم، والجملة بيان لذلك، وفي الإبهام أولًا والتبيين ثانيًا مزيد تقرير له، وقال ابن عطية: بدل من حق والمبدل منه ليس في حكم السقوط حقيقة، وقيل بدل من محل اسم إن، والمراد بالتخاصم التقاول، وجوز إرادة ظاهره فإن قول الرؤساء {لا مرحبًا بهم} [ص: 59] وقول الأتباع {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَبًا بِكُمْ} [ص: 60] من باب الخصومة فسمي التفاوض كله تخاصمًا لاشتماله عليه، قيل وهذا ظاهر أن التقاول بين المتبوعين والأتباع أما لو جعل الكل من كلام الخزنة فلا، ولو جعل {لاَ مَرْحَبًا} من كلام الرؤساء و{هذا فَوْجٌ} من كلام الخزنة فيصح أن يجعل تخاصمًا مجازًا.
وقرأ ابن أبي عبلة {تَخَاصُمُ} بالنصب فهو بدل من ذلك.
وقال الزمخشري: صفة له، وتعقب بأن وصف اسم الإشارة وإن جاز أن يكون بغير المشتق إلا أنه يلزم أن يكون معرفًا بأل كما ذكره في المفصل من غير نقل خلاف فيه فبينه وبين ما يستدعيه القول بالوصفية تناقض مع ما في ذلك من الفصل الممتنع أو القبيح.
وأجاب صاحب الكشف بأن القياس يقتضي التجويز لأن اسم الإشارة يحتاج إلى رافع لإبهامه دال على ذات معينة سواء كان فيه اختصاص بحقيقة أخرى أو بحقائق أولًا، وهذا القدر لا يخرج الاسم عن الدلالة على حقيقة الذات المعينة التي يصح بها أن يكون وصفًا لاسم الإشارة، وأما الاستعمال فمعارض بأصل الاستعمال في الصفة فكما أن الجمهور حملوا على الصفة في نحو هذا الرجل مع احتمال البدل والبيان كذلك الزمخشري حمل على الوصف مع احتمال البدل لأنه التفت لفت المعنى، ولا يناقض ما في المفصل لأنه ذكر ذلك في باب النداء خاصة على تقدير عدم استقلال اسم الإشارة ولأن حال الاستقلال أقل لم يتعرض له، وقد بين في موضعه أنه في النداء خاصة يمتنع وصف اسم الإشارة إذا لم يستقل بالمضاف إلى المعرف باللام على أنه كثيرًا ما يخالف في أحد الكتابين الكشاف والمفصل الآخر، والإشكال بأنه يلزم الفصل غير قادح فإنه يجوز لاسيما على تقدير استقلال اسم الإشارة. اهـ. ولا يخلو عن شيء.
وقرأ ابن السميقع {تَخَاصُمُ} فعلًا ماضيًا {أَهْلُ} بالرفع على أهل فاعل له. اهـ.